info@archon-defense.com

Archon

لماذا يرتفع سعر السلاح بوتيرة متسارعة؟

9 hours ago
2 views
0 comments
5 min read

لا، لستُ أتحدث هنا عن المسدس الذي بحوزتك والذي حصلت عليه بطريقةٍ ما من أحد أمناء الشرطة، ذلك الذي زاد سعره لأن الأمين قرر أن ينال "حلاوته" من الصفقه... إنما حديثنا اليوم عن المنظومات الدفاعية، وعن منظورٍ أوسع قليلاً.

كثير من الناس حين تنظر إلى أرقام ميزانيات الدفاع وأسعار الطائرات والصواريخ تقول مباشرة: بالتأكيد هناك فساد... بالتأكيد هناك وساطة وسمسرة... لا بد أن هذه الشركات تسرق العالم!

بعض هذا الكلام قد يحمل شيئاً من الحقيقة طبعاً، لكن حتى لو نزعتَ الفساد وسوء الإدارة بالكامل، ستكتشف أن هناك منطقاً اقتصادياً يجعل أسعار الأسلحة ترتفع أسرع من معدل التضخم، وفي الوقت نفسه يجعل الهواتف المحمولة والحواسيب المحمولة تتحسّن كل عام وتصبح أرخص نسبياً.

في الصناعات الدفاعية (وغيرها) يوجد ما يُسمّى “مرض التكلفة”. فهناك قطاعات تزداد إنتاجيتها بسرعة، مثل خطوط إنتاج الشرائح الإلكترونية، أو المنتجات الاستهلاكية الإلكترونية، أو البرمجيات التي تُباع لملايين المستخدمين. في كل دفعة إنتاجية جديدة، ستجد نفس فريق المهندسين ينتج أكثر بكثير مما أنتج في المرة السابقة.

وفي المقابل، هناك قطاعات لا تزداد إنتاجيتها بالسرعة نفسها، مثل الخدمات المعقدة، التعليم، الصحة، وبشكلٍ أوضح في حالة الدفاع: البحث والتطوير العسكري، مراحل الاختبار الطويلة، والهندسة النظامية التي تربط راداراً بطائرة بشبكة قيادة وسيطرة داخل بيئة صراع.

المشكلة أن الأجور لا تسير وفق رغباتنا. فالمهندس القادر على العمل في شركة إلكترونيات مدنية أو شركة دفاعية لن يقبل أن يتقاضى نصف الراتب فقط لأن إنتاجية قطاع الدفاع أقل. السوق يرفع أجره في كل الاتجاهات، فتُضطر أنت إلى رفع أجر ساعة المهندس، وأجر ساعة الاختبار، وتكلفة فرق التوثيق وضمان الجودة والاعتمادات.

وهكذا تصبح الأجور في ازدياد مع السوق، لكن إنتاجية الساعة في الدفاع لا تنمو بنفس سرعة الإلكترونيات مثلاً. وهنا يظهر ما يُسمّى "مرض باومول" (العالم الذي طرح هذه الفكرة أكاديمياً). فقد قال إن تكلفة القطاعات البطيئة تُلاحق القطاعات السريعة دون أن تلحق بها فعلاً. والنتيجة؟ أن المشروع الدفاعي من النوع نفسه الذي كان يُنفّذ قبل ثلاثين سنة بمبلغ معين، أصبح اليوم يحتاج إلى أضعافه، حتى دون أي اختراع جديد جذري داخله، لمجرد أن كل ساعة عمل في سلسلة الإنتاج أصبحت أغلى.

وهناك سبب آخر هو "فخّ الكمال" وتضخّم المتطلبات. ففي الصناعات المدنية، يُفكّر المنتجون عادة بمنطق: نُطلق منتجاً معقولاً يصلح للبيع ثم نحسّنه في الجيل التالي. أما في الصناعات الدفاعية، فكثير من الدول تريد من اللحظة الأولى "المنتج النهائي" الكامل. تريد مقاتلة تحمل أكثر، وتطير أبعد، وتعمل في بيئة تشويش، وتكون متصلة بعشرة أنظمة أخرى، وتعمل في كل مسرح عمليات ممكن، وتخدم كل فروع الجيش... إلخ.

فتجد نفسك لا تُنتج مجرد منتجٍ ستطوّره لاحقاً، بل تبني "نظام أنظمة" منذ اليوم الأول. كل إدارة تضيف بنداً في المتطلبات، وكل قيادة تضع هامش أمان جديد، وكل ضابط عمليات يقول: "ولماذا لا نجعل النظام يفعل كذا أيضاً؟"
وكل إضافة بسيطة على الورق تعني في الواقع إعادة تصميم، وإعادة اختبار، وإعادة تقييم لسلسلة الإمداد. وهذا ما يُسمّى بـ تزايد المتطلبات أو Requirements Creep، أي أن المتطلبات تتزايد بهدوء، لكن كل متطلب إضافي يخلق تضخماً في الجدول الزمني والتكلفة.

ولذلك تجد تقارير رسمية في دول كبرى تقول إن متوسط الزمن الذي يحتاجه برنامج تسليح ضخم حتى يصل إلى قدرة أولية أصبح يقارب اثنتي عشرة سنة منذ بداية البرنامج.

اثنتا عشرة سنة! ليس لأن المهندسين عاجزون عن التصميم، بل لأن الهدف نفسه يتغيّر طوال الوقت وهم يلاحقونه.

وهناك نقطة أخرى مهمة. الزمن نفسه أصبح أهم بند تكلفة في مشاريع الدفاع. فكل من عمل في إدارة المشاريع يعرف أن التأخير له ثمن. فالفريق الهندسي ما زال يعمل ويتقاضى رواتبه، والاختبارات تُعاد لأن المواصفات تغيّرت، والعقود تُفتح من جديد لأن الأسعار العالمية تغيّرت، وبعض الموردين غادروا السوق فتبحث عن بدائل، والسياسة نفسها تتبدّل فتُعيد ترتيب أولويات البرنامج.

في تقارير عن برامج التسلّح الأمريكية مثلاً، ستجد أنهم يقولون إن مشروع Sentinelوحده مسؤول عن أغلب الزيادة في التكاليف، لا لأن الشركة قررت فجأة سرقة ثلاثين أو أربعين ملياراً دون أن يدري أحد، بل لأن البرنامج نفسه تأخّر، والمتطلبات زادت، والتقديرات الأصلية كانت مفرطة في التفاؤل، فتحوّلت كل سنة إضافية إلى فاتورةٍ مستمرة.

لكن ما الذي يعنينا نحن من كل هذا؟
الدرس الاقتصادي الأهم هو أن أي دولة تُريد أن تدخل مجال التصنيع الدفاعي يجب أن تلتزم بثلاثة مبادئ أساسية منذ اليوم الأول:

  • احسم المتطلبات مبكراًما لم يُذكر في وثيقة واضحة منذ البداية، فاعتبره غير موجود. كل تفصيلة صغيرة تُضاف لاحقاً، خاصة في البرامج المعقدة، تتحوّل تلقائياً إلى شهور وسنين إضافية وتكلفة متضخّمة.
  • اعمل بمنهجية الكتل (Blocks) المتتابعة، لا بمنطق التحفة الكاملة من أول مرةابدأ بالإصدار الأول (Block 1) بقدرات محدودة، ثم طوّر إلى Block 2 ثم 3. واقبل أن النسخة الأولى لن تكون الأفضل في العالم، لكنها ستكون حجر الأساس الذي سيبنى عليه منحنى التعلم الصناعي والتكنولوجي. أما التفكير بمنطق “أريد أفضل شيء في العالم من أول مرة” فهو ما جعل 80٪ من المشاريع الأوروبية تتأخر وتتضخّم بالشكل الذي نراه في تقارير علنية.
  • ضع سعراً للوقتكما تحسب تكلفة المعدن والإلكترونيات وساعات العمل، احسب تكلفة كل سنة تأخير. حين يدرك صانع القرار أن تأجيل القرار سنة واحدة يعني رقماً مالياً هائلاً، ستتغيّر طريقته في اتخاذ القرار. طالما الزمن يُنظر إليه كأنه مجاني، فستظل البرامج الدفاعية تطول وتتعقّد دون نهاية.

هذا كله يفسّر لماذا أحياناً يكون التوطين أو التطوير المحلي أغلى من الشراء المباشر. ليس لأن فكرة التوطين خاطئة، ولكن لأنك إذا دخلت هذا المجال دون حجم إنتاجٍ كافٍ، ودون حوكمة صارمة واضحة في المتطلبات والوقت، ستكتشف أنك تدفع تكلفة إنشاء مصنع وخبرات وسلاسل إمداد من أجل عددٍ محدود جداً من الوحدات.
وحينها ستبدو وكأنك تدعم صناعة وطنية في الشكل، لكن واقعها الاقتصادي يثقّل كاهل ميزانيتك أكثر مما يعزّز قدرتك على الردع.