الذين يعلقون آمالًا كبيرة على موضوع نقل التكنولوجيا، وخاصة مع تركيا، وبصورة أكبر مع شركة بايكار،
أرجو المعذرة إن أطلت الحديث، سأكتب بطريقتي المعهودة: أولًا المعلومات، ثم تحليلي الشخصي. يمكنك أن تتفق أو تختلف معه، ولكن إن اختلفت، حاول ألا تبالغ في التفاؤل، وفكر أن الشراكة أو نقل التكنولوجيا ليس بالضرورة أمرًا مناسبًا لدولة مثل مصر، بما تمتلكه من طاقات بشرية وموارد وقاعدة صناعية ضخمة.
خلال العامين الماضيين، انتشرت أحاديث كثيرة عن محاولات دول عربية إقناع شركة بايكار ببيع جزء من أسهمها أو نقل عمليات التطوير والتصنيع إلى أراضيها.
المملكة العربية السعودية، بعد تطبيع العلاقات مع تركيا، دخلت بقوة في هذا المجال، واهتمت بشركة بايكار تحديدًا. فقد وقعت عقدًا ضخمًا لشراء طائرات «أقنجي»، وهو أكبر عقد في تاريخ الشركة، بل وأكبر عقد تصدير جوي في تاريخ تركيا كله. كما تضمن العقد اتفاقًا واضحًا على توطين جزء من التصنيع داخل السعودية بالتعاون مع شركة «سامي»، وهي شركة حكومية كبرى تُعد من أكبر شركات الصناعات الدفاعية السعودية، وتندرج ضمن قائمة أكبر 100 شركة دفاعية في العالم.
لكن حتى مع هذا العقد الضخم، لم تتمكّن السعودية من إقناع بايكار بنقل التكنولوجيا بشكل كامل، فاستقر الاتفاق على تجميع متقدم وتصنيع جزئي وخطوط إنتاج محلية تحت إشراف مباشر من شركة بايكار.
وفي الفترة نفسها تقريبًا، ظهرت في الصحافة التركية أخبار عن رغبة السعودية في شراء حصة كبيرة من الشركة، بل إن بعض التقارير ذكرت نية شراء الشركة بالكامل بمبلغ قدره 100 مليار دولار، وهو رقم قريب من قيمة ديون مصر كلها تقريبًا. وقد أطلقت المعارضة في تركيا وقتها حملة قوية ضد الحكومة، متهمة إياها بالتفريط في أهم شركة دفاعية في البلاد.
كما ظهرت أخبار عن اهتمام الإمارات بحصة في شركة بايكار بحسب تقارير تحليلية تركية، لكنها لم تُعلن رسميًّا. المؤكد هو أن الإمارات اشترت طائرات «TB2» ثم دخلت في شراكات صناعية مع شركة بايكار من خلال مجموعة «إيدج»، وهي شركة مهمة تُعد كذلك من بين أكبر 100 شركة دفاعية في العالم.
هذه الشراكة ليست على مستوى الملكية، بل تتعلق بدمج الذخائر والأنظمة الإماراتية على منصات بايكار.
أمّا المغرب فحالته مختلفة تمامًا. رغم أن لديه قاعدة صناعية قوية، فإنني لا أعلم على وجه الدقة إن كان قد طلب نقل التكنولوجيا أم لا، غير أن الذي حدث هو أن شركة بايكار نفسها أنشأت شركة باسم «Atlas Defense» على الأراضي المغربية بملكية تركية، وبمشروع مصنع وصيانة وتجميع يخدم الجيش المغربي ويكون بوابة للأسواق الإفريقية.
أما أذربيجان، وهي من أقرب الدول إلى تركيا، فلم يحدث بينها وبين بايكار نقل تكنولوجيا حتى في فترة الحرب، رغم أن تركيا كانت تقدم لها كل أشكال الدعم الممكنة.
الأمر الذي لا يرغب كثيرون في سماعه هو أن بايكار ليست شركة تفكر بعقلية «توزيع التكنولوجيا على الأصدقاء»، ولا حتى تفكر فقط من زاوية الأرباح والعوائد المالية. فأي شخص قريب من هذا المجال في تركيا يدرك هذه الحقيقة جيدًا.
شركة بايكار – بالمناسبة – شركة عائلية للغاية، ومركزية جدًا في اتخاذ القرار، وترى أن أهم أصولها ليس المصانع ولا حتى الطائرات المسيّرة التي طوّرتها، بل المعرفة المتراكمة وسلسلة التطوير التي تربط البرمجيات بالأجهزة بالعمليات. ومن دون هذه المعرفة، لا وجود لبايكار أصلًا، ولذلك لن تفرط فيها لأنها هي جوهر الشركة وتعريفها الحقيقي.
بمعنى أنه لو افترضنا أن إنتاج الشركة كله اختفى فجأة غدًا، فستتمكن خلال بضع سنوات من إعادة بناء كل شيء من جديد من الصفر.
ولهذا السبب، فإن فكرة بيع الشركة بالكامل مرفوضة داخلها، مهما كان المبلغ خياليًّا، كما أن فكرة نقل التطوير الأساسي خارج تركيا تعتبر خطًا أحمر.
ما تفعله بايكار لا يختلف عما تقوم به أي شركة دفاعية محترفة في العالم: تصنيع محلي جزئي، وتجميع، وتدريب، وتشغيل، ومشاركة محدودة في بعض المكونات، بينما تبقى التكنولوجيا الجوهرية حكرًا عليها وحدها، ولا تُطرح للتفاوض أبدًا.
أما بشأن مصر، فرأيي أننا لسنا دولة تحتاج إلى «صدقة تكنولوجية»، وليس من المنطقي أن نتعامل مع أنفسنا كأننا دولة صغيرة بحاجة إلى من يعلّمها من البداية.
مصر تمتلك كتلة بشرية ضخمة، ومهندسين أكفاء، وقاعدة صناعية واسعة، ولو جرى توظيف هذه الإمكانات بالشكل الصحيح، لأمكنها تطوير طائرات مسيّرة وأنظمة متكاملة من الصفر، دون الحاجة إلى «كتالوج شراكة».
فكرة أن تأتي شركة أجنبية لتنقل لك التكنولوجيا لا تحدث كما يتخيل البعض. في أفضل الحالات، يكون أقصى ما تصل إليه هو أن تتيح لشركاتك ومهندسيك الاطلاع المبدئي على شكل التكنولوجيا أو آلياتها التشغيلية، حتى مع أقرب الحلفاء.
الذي يحدث فعليًا هو نقل تشغيلي، وليس نقل سيادة تكنولوجية.
علينا أن نتجاوز فكرة أن الحل السحري هو عقد شراكة مع بايكار أو غيرها لنقل التكنولوجيا. نعم، الشراكات مفيدة بالتأكيد، لكنها ليست بديلًا عن بناء مشروع وطني حقيقي، ولا يمكن أن تعمل بنفس المنطق مع كل الدول.
السعودية تمتلك المال والسوق، والإمارات تمتلك المال والمشروعات النشطة، والمغرب يملك موقعًا مميزًا وقاعدة صناعية متطورة، أما مصر فتمتلك أمرًا مختلفًا تمامًا — موارد ضخمة، وقدرات هائلة، وإمكانات يجب أن تتحول إلى استراتيجية مستقلة ومشروع وطني حقيقي.
باحث