لماذا لا تُنتج القيادات العسكرية التقليدية وأسلوب القيادة الهرمي ابتكارًا أو تطويرًا فعّالًا في مجال الصناعات الدفاعية؟
لقد كتبتُ سابقًا عن أن التسارع والتطور الذي حدث في الصناعات الدفاعية التركية كان مصحوبًا بتغييرٍ في فلسفة الإدارة نفسها؛ إذ حدث خروج تدريجي للقيادات العسكرية من إدارة الشركات الدفاعية، ودخول قيادات مدنية-تكنوقراطية ذات فكر مختلف تمامًا.
ولكن إن نظرنا إلى الموضوع من زاويةٍ اقتصاديةٍ بحتة وفهِمنا لماذا يَخنق الأسلوب الهرمي العسكري الابتكار، فعلينا أن نستوعب بعض المفاهيم البسيطة من اقتصاديات المؤسسات.
أول نظرية هي نظرية الوكيل والأصيل (Principal–Agent Theory)، وهي التي تشرح لنا لماذا قد يتصرف الأفراد أحيانًا بعكس مصلحة المؤسسة.
الفكرة ببساطة أن أي مؤسسة يمكن النظر إليها من خلال هذه النظرية على أنها تتكوّن من "أصيل" (القيادة العليا) و"وكلاء" (المهندسون، والإداريون، ومديرو البرامج). لكن العلاقة بين الطرفين لا تقوم على تطابُق مصالحٍ كامل.
في الصناعات الدفاعية التقليدية، يريد "الأصيل" (الإدارة) الابتكار والسرعة في العمل مع قدرٍ محسوبٍ من المخاطر ومنتجاتٍ جديدة.
لكن "الوكيل" (المهندسون)، عندما تكون الإدارة ذات خلفيةٍ عسكريةٍ صارمة، تصبح أولويته ألّا يخطئ، وألّا يُعاقب، وألّا يلفت الأنظار. فيسعى فقط إلى الالتزام بالقواعد وتحقيق "صفر أخطاء"، حتى وإن كان ذلك يعني "صفر ابتكار".
اقتصاديًا، يُعرف هذا المفهوم بـ عدم الكفاءة العقلانية (Rational Inefficiency)، أي أن الوكلاء (المهندسين) يؤدّون عملهم بأداءٍ أقل لكن بعقلانية، لأن الحوافز تشجّعهم على تجنّب الأخطاء أكثر من تشجيعهم على الإنجاز.
بمعنى آخر، لا يجتهد المهندسون لأنهم لا يحصلون على مكافأةٍ عند تحقيق إنجاز، بينما يُعاقبون عند ارتكاب خطأ.
وهذا يقودنا إلى المفهوم الثاني، وهو نظرية ثقافة الصفر خطأ (Zero-Error Culture)، وهي العدو الأول للابتكار.
تلك الثقافة تنشأ طبيعيًا في أي مؤسسة تُعاقب على الأخطاء أكثر مما تُكافئ على النجاحات.
ومن ثمّ يرفض الوكلاء (المهندسون) المخاطرة ويختارون الطريق الآمن، حتى لو كان أبطأ وأضعف.
وهذه الظاهرة كانت سائدة لسنواتٍ طويلة في كثيرٍ من شركات الصناعات الدفاعية حول العالم، ومنها تركيا قبل عام 2004.
تخيّل مؤسسةً تحتوي على 300 خطوةٍ إجرائية للموافقة، و50 توقيعًا، وأي خطأٍ بسيطٍ يُعرّض الموظف للفصل أو العقوبة الشديدة! من المؤكّد أن أحدًا لن يجرّب فكرةً جديدة، ولن يقول "دعونا نجرب هذه الطريقة فقد تنجح".
لن يغامر أي مهندسٍ بفكرةٍ قد تفشل، حتى إن كانت قادرةً على تغيير مستقبل الصناعة بأكملها.
هنا نصل إلى نظرية الحوافز (Incentive Theory)، التي تقول ببساطة: إذا لم توجد مكافأةٌ للابتكار، فلن يحدث الابتكار.
فالأشخاص يقومون بما يكافئهم عليه النظام، لا بما ينبغي أن يقوموا به بالضرورة. فإذا كان منطق الإدارة العسكرية يكافئ الانضباط، وعدم الخطأ، وتنفيذ الأوامر، واستكمال الإجراءات، فمن الطبيعي ألا نرى سوى مشاريعٍ تسير بفلسفةٍ بيروقراطيةٍ بطيئة، وفرقٍ هندسيةٍ مترددةٍ في التجريب، وأفكارٍ متأخرةٍ وتطويرٍ بطيء.
إن الابتكار يحتاج إلى مساحةٍ وإلى ثقافةٍ تشجع المخاطرة والتجريب، لكن النظام العسكري مصمَّم أساسًا لتقليل المخاطرة لا لإدارتها.
وهنا نصل إلى منطق التحسين المثالي (Perfect Optimization Trap). في الصناعات الدفاعية التقليدية، هناك مرضٌ شائع يتمثّل في الرغبة في الوصول إلى "أفضل منتجٍ في العالم" من أول نسخة، دون أخطاء. الاقتصاديون يسمّون ذلك "السعي للكمال تحت قيودٍ بيروقراطية"، وهو حرفيًا أحد الأسباب الرئيسية لتأخر نحو 80% من مشاريع التسليح الأوروبية.
لأنك عندما تحاول جعل كل مشروعٍ مثاليًا، وتصرّ على أن تكون كل مواصفةٍ على أعلى مستوى عالمي، وكل تعديلٍ يخضع لعشر لجان تقييم، فإن الناتج الطبيعي هو أن يستغرق الوصول إلى منتجٍ نهائيٍّ عشر سنوات بدل سنتين.
وهذا يعاكس جوهر الابتكار تمامًا، لأن الابتكار يحدث عبر خطواتٍ متكرّرة وتجارب متواصلة، بينما الفكر العسكري التقليدي يريد النجاح من المحاولة الأولى.
في أي صناعةٍ تكنولوجيةٍ حقيقية، تُعدّ المخاطرة جزءًا من اللعبة. فالابتكار لا يولد من الخوف والانضباط وتنفيذ الأوامر والتقارير الطويلة والموافقات المتسلسلة، بل يحتاج إلى حرية اتخاذ القرار، وتحمل مسؤولية التجربة والفشل، وتقديم المكافآت عند نجاح الفكرة، وبناء ثقافةٍ قائمةٍ على التعلم بالتجربة والخطأ.
وهذا كله يتعارض تمامًا مع البيئة العسكرية التقليدية.
لهذا السبب، عندما دخلت القيادة المدنية إلى مجال الصناعات الدفاعية التركية، اتسع هامش المبادرة، فزاد الابتكار بسرعةٍ ملحوظة.
Researcher