متى بدأ الحديث عن العلاقة بين التكنولوجيا والحرب؟
وما الفرق بين التكنولوجيا والاستراتيجية؟
وكيف يمكن أن نفكر فلسفياً في عالم أصبح فيه العقل الاستراتيجي موزعاً بين البشر والخوارزميات والأنظمة التكنولوجية؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، أو بالأحرى قبل فتح أبواب البداية لفهم إجابات هذه الأسئلة، يحسن أن تُروى حكاية قصيرة جداً.
في أول يوم تحدثت فيه مع مشرف رسالة الدكتوراه، قدّم لي نصيحة: إذا أردت أن تتخصص بعمق في مجال معين، فلا بد أن تفهم تاريخ هذا الموضوع فلسفياً فهماً جيداً، وأن تعرف من أين جاء هذا التاريخ الفلسفي. ومنذ ذلك اليوم وأنا تائه وسط كلام من النوع الذي يحتاج وقتاً طويلاً حتى يُفهم، وكلما قرأته مرة أخرى وجدت أنني فهمت جزءاً جديداً لم أكن منتبهاً له من قبل.
منشور اليوم مختلف، وثقيل قليلاً عمّا اعتدنا عليه. هو حصيلة بحث أكاديمي؛ أخذتُ فيه فهمي للموضوع وملاحظاتي عليه، ثم حاولت تبسيطه قدر المستطاع، مع الظنّ أن مشاركته قد تساعد في فهم التاريخ الفلسفي للحروب والتكنولوجيا.
...
المشهد الجيوسياسي الذي نعيشه اليوم يفرض علينا أن نفكر في الاستراتيجية والتكنولوجيا بعمق أكبر بكثير من مجرد متابعة أخبار الحروب التي تمرّ علينا يومياً في وسائل الإعلام.
فالمشهد ليس دبابات وصواريخ وجبهات مفتوحة فقط، بل هناك عسكرة بطيئة ومستمرّة للمجتمع نفسه، وتحول أدوات الحكم والإدارة والاقتصاد إلى جزء من منطق الصراع.
هناك أنماط جديدة من الحرب تظهر مع كل موجة تكنولوجية، أنماط هدفها الأساسي ليس مجرد تدمير قدرات الخصم المادية، بل لها هدف أهم: التلاعب بطريقة فهم الخصم للعالم، وبمفاهيمه الأساسية.
الحدود التقليدية بين المدني والعسكري، وبين الحرب والسلام، تبدأ في الذوبان والامتزاج، إلى أن تصل لدرجة يصبح معها التمييز بينها أمراً بالغ الصعوبة.
إن تاريخ الحروب في العالم هو في جوهره تاريخ تقنيات؛ فكل نقلة تكنولوجية كبيرة إما قلبت موازين القوى أو غيّرت طبيعة الحرب نفسها. ويمكن فهم الأمر أيضاً على أن هذه النقلات التكنولوجية كانت سبباً في نشوء الحروب ذاتها إن أردنا المبالغة في الشرح.
لديك بنادق خفيفة، ثم يخترع طرف آخر مدافع ثقيلة؛ فيجرّبها ضدك ويستولي بها على أرضك ومواردك ما دامت هذه تكنولوجيا جديدة غير متاحة لديك. فكّر في الأمر من البارود وصولاً إلى القنبلة الذرية التي جعلت فكرة الإبادة الشاملة احتمالاً واقعياً، لا مجرد أحلام لدول استعمارية؛ كلها تقنيات وُلدت من الحروب، لكنها أيضاً صنعت حروباً.
ورغم عمق العلاقة بين التكنولوجيا والحروب، فإن التراث الفلسفي الكلاسيكي غالباً ما يعامل الحرب والتقنية كهوامش. وحتى اليوم لا نملك أدوات فكرية كافية لفهم المرحلة التي نمرّ بها فهماً حقيقياً.
يمكن النظر إلى التقنية والاستراتيجية على أنهما ليسا مجالين منفصلين، بل خط واحد ممتد تاريخياً، يتحرك دائماً في منطقة رمادية مشتركة بينهما. الفلسفة التقليدية وضعتهما خارج المركز بحجة أنهما وسائل لا غايات، وأنهما يتعاملان مع الطوارئ لا مع المبادئ الثابتة، فأعطتهما دوراً ثانوياً في الصورة الكبرى.
لكن إذا عدنا خطوة إلى الوراء سنجد أن العلاقة بينهما (التكنولوجيا والاستراتيجية) أقدم وأعمق بكثير.
في اليونان القديمة، كانت كلمة techne مرتبطة بفكرة metis، أي الحيلة والدهاء والمكر بوصفها أدوات للتفكير والحركة.
الفكر النقدي في العصر الحديث رأى هذا التحالف بوصفه استراتيجية كاملة للهيمنة، لا مجرد أدوات محايدة، لكن حتى هذه القراءة تحصر الاستراتيجية أحياناً في منطق السيطرة فقط، وكأن هناك نموذجاً واحداً لا غير: طرف يعرف كل شيء ويحرّك الخيوط من أعلى، والباقون مجرد دمى تتحرك وفق هذه الخيوط.
المشكلة أن اختزال الاستراتيجية في فكرة السيطرة يغفل جوهرها الأساسي، وهو التعامل مع بيئة بطبيعتها غير مستقرة، وغير مفهومة بالكامل، ومعادية في أحيان كثيرة.
في مقابل أي حلم فلسفي جميل عن الحق والحُوكمة والسلام التي تُقدَّم لنا دوماً كقيم عليا، يظهر واقع مهم: استقرار هذه القيم على الأرض دائماً يعتمد على ترتيبات تكنولوجية واستراتيجية دقيقة.
اللغة التي تعيد تعريف الواقع، أو استخدام العنف المحسوب، أو التمويه الإيديولوجي لعلاقات قوة مادية بالكامل؛ كلها أمثلة تؤكد أن الاستراتيجية ليست رفاهية فكرية، بل هي إقرار بأن التفكير نفسه يعمل دوماً فوق أرض مهزوزة، مليئة بعناصر لا يمكن استيعابها بالكامل.
إذا انتقلنا إلى أحد أعمق التأملات الفلسفية في مفهوم الاستراتيجية، فلا بد أن يظهر اسم كلاوزفيتز أمامنا؛ فقد أصر على الفصل بين النشاط التقني والنشاط الاستراتيجي.
قال إن المهندس المعماري، مثلاً، يطبّق عمليات ميكانيكية على مادة خام سلبية لا تتفاعل؛ أي إن لديه نموذجاً واضحاً، وقوانين ثابتة، وواقعاً يعمل عليه دون أن يردّ الواقع نفسه عليه.
أما في الحرب فالصورة معكوسة تماماً؛ الخصم كيان عاقل يغيّر تكتيكاته، والواقع نفسه يتحرك بسرعة، وبالتالي فإن أي محاولة للتعامل مع الحرب كرياضة ميكانيكية أو معادلات ثابتة تفشل من اللحظة الأولى.
يرى كلاوزفيتز أن معرفة الاستراتيجي يجب أن تكون متغيرة بدورها؛ معرفة تعمل بمنطق التحوّل المستمر، وإعادة التقييم، والتكيف مع هدف عدائي يتحرك طوال الوقت.
هذا ما دفعه إلى رفض فكرة "فن الحرب" بالمفهوم السهل الذي يشبه الحرب بالفنون الجميلة أو بالحرف التقليدية التي تهدف إلى تشكيل مادة خام ساكنة.
فالهدف في الحرب كائن حي، وردّ فعله جزء من المعادلة نفسها؛ وإذا ظللت تفكر في الحرب كفنّ يشكّل مادة صمّاء فسوف تعيش دائماً في وهم.
لكن تاريخ الفكر والتكنولوجيا لم يتوقف عند لحظة الفصل هذه. إحدى أهم الاستجابات التاريخية لمشكلة أن techne تتعامل مع شيء خامل كانت في ظهور علم التحكم الآلي (السيبرنيتيك).
السيبرنيتيك دخلت بفكرة بسيطة وخطيرة في الوقت نفسه: بدلاً من النظر إلى الآلة كجهاز ينفّذ أوامر ثابتة على واقع ساكن، يُنظر إليها كنظام يستقبل إشارات من الواقع ويعيد ضبط نفسه باستمرار بناء على التغذية القادمة من الهدف.
عمل عالم يُدعى نوربرت فينر على مفهوم "التغذية السلبية" خلال الحرب العالمية الثانية، وكان نموذجاً واضحاً لهذه النقلة هو تطوير أنظمة تكنولوجية قادرة على تعديل نفسها لحظياً استناداً إلى الإشارات القادمة من الهدف الذي تتعامل معه، وهو التطور الذي أوصلنا في النهاية إلى المسيّرات والأنظمة الذاتية.
في هذه اللحظة عادت التقنية والاستراتيجية صديقين بشكل أوضح؛ إذ أصبحت لدينا منظومات تكنولوجية مُصمَّمة أصلاً بمنطق استراتيجي، تفكر في العدو بوصفه متغيراً، وفي الهدف ككيان يردّ ويتحرك، وفي الفعل التكنولوجي نفسه كجزء من حلقة مستمرة لا خطوة واحدة.
هذا يعني أن techne لم تعد مجرد أداة صمّاء، بل أصبحت جزءاً من شبكة تكيف واستجابة، وفي الوقت نفسه فتح ذلك الباب أمام أسئلة أعمق: إذا أصبحت الآلة نفسها جزءاً من منطق التغذية الراجعة، فأين يبدأ القرار البشري وأين ينتهي؟ وكيف يمكن أن نفكر فلسفياً في عالم صار فيه العقل الاستراتيجي موزعاً بين بشر وخوارزميات وأنظمة تكنولوجية؟
النقطة الأساسية هنا ليست فقط أن الحرب قد تغيّرت، بل إن طريقة فهمنا للعلاقة بين الفكر والتقنية والاستراتيجية تحتاج إلى إعادة بناء من جديد.
بدون أدوات فكرية تستوعب أننا نعيش في بيئة هجينة يختلط فيها المدني بالعسكري، وتكون فيها التكنولوجيا غير محايدة ولا مجرد وسيلة، سيظل تحليلنا قاصراً عن فهم طبيعة الصراعات التي تتشكل أمامنا اليوم.
باحث