لنواصل الحديث عن اقتصاديات سلاسل الإمداد الدفاعية، ولكن بمعلومات جديدة مبنية على ما تحدثنا عنه سابقاً في الموضوع نفسه، مع ربط الأمر بفرص مصر في هذه الصناعات. بعد هذا المنشور ستفهم تماماً لماذا انتقدت فكرة “المخدرات الإعلامية” التي تزعم أننا نصنع سلاحاً سرياً معقداً ومتطوراً سيذهل العدو.
إذا نظرت إلى أي نظام تسليحي حديث – سواء كان صاروخاً، أو طائرة، أو طائرة مسيّرة – فستجد أن كل قطعة فيه تأتي من شركة مختلفة، في بلد مختلف، ومن أجيال متعددة من التكنولوجيا. ولهذا أوضحت سابقاً أن السؤال الأهم ليس “من يصنع السلاح؟” بل “من يسيطر على سلسلة الإمداد التي تجعل هذا السلاح موجوداً بالأساس؟”.
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نحو 15٪ من الإنتاج الدفاعي العالمي، لكنها تسيطر على أكثر من 50٪ من السلاسل التقنية المغذية للصناعات الدفاعية في العالم بأسره: من الرقائق الإلكترونية، والبرمجيات، والأنظمة الملاحية، والمكونات الإلكترونية الحساسة، إلى كل جزء حرج في أي منظومة عسكرية.
بمعنى آخر، قد تتمكن فرنسا من تصنيع طائرة دون أمريكا، لكنها قد تواجه صعوبة في تشغيلها إذا توقفت الولايات المتحدة عن توريد شريحة إلكترونية معينة. وهنا يظهر مفهوم “اقتصاديات السيطرة” في الصناعات الدفاعية، أي أن التحدي الحقيقي ليس في تصنيع السلاح، بل في امتلاك المدخلات السيادية التي بدونها تتعطل الصناعة بأكملها.
لنأخذ مثال روسيا: بعد غزو أوكرانيا اكتشفت أن لديها مصانع دبابات، لكنها تفتقر إلى رقائق ذكية كافية. فبدأت وكالة الدفاع الروسية بشراء رقائق مدنية من السوق السوداء، وتفكيك الأجهزة المنزلية لاستخراج المكونات منها. هذا مثال عملي يوضح كيف يمكن للاقتصاد أن يشلّ منظومة عسكرية حتى وإن امتلكت ترسانة ضخمة. تخيل أن هناك دبابات روسية تعمل اليوم بمكونات مأخوذة من غسالة أو ثلاجة!
أما أوكرانيا، فبرغم ضعفها الصناعي مقارنة بروسيا، استفادت من شبكة إمداد غربية هائلة. كل طائرة مسيّرة تُسقط في الحرب يقف خلفها أكثر من 20 شركة في 10 دول مختلفة، ويمكنهم تصنيع واحدة بديلة خلال ساعات قليلة. الحرب اليوم أصبحت حرب شبكات إنتاج وانتقال ملكية فكرية، وليست مجرد حرب جيوش على الأرض.
أصبحت تكلفة الحرب مرتبطة ليس بعدد الدبابات المدمَّرة، بل بسرعة تعويض المكونات التي ضاعت في تلك الدبابة. ومن هنا ظهر مصطلح جديد في أدبيات الدفاع هو “سلاسل الإمداد المرنة” (Resilient Supply Chains) أي القدرة على العودة للإنتاج بسرعة بعد أي صدمة.
لهذا تعمل القوى العسكرية الحديثة على بناء قدرات تصنيع موزعة. فتركيا، على سبيل المثال، تجعل كل شركة متوسطة أو صغيرة قادرة على الدخول إلى قطاع الدفاع كمورّد أو متعاقد فرعي، بحيث إذا تعطل مصنع رئيسي تستطيع المنظومة مواصلة الإنتاج.
وفي الولايات المتحدة، يوجد ما يسمى بـ قاعدة الصناعة الدفاعية (Defense Industrial Base)، وهي شبكة تضم آلاف الموردين المدنيين والعسكريين متشابكين بشكل بالغ التعقيد، بهدف الحفاظ على القدرة على تعويض خسائر المكونات سريعاً. فالمشكلة ليست في خسارة السلاح نفسه كما أشرنا، بل في فقدان المكون الذي يصنعه أو يشغله.
أما بالنسبة لمصر، فإن الدخول الجاد إلى الصناعات الدفاعية لا يبدأ من إنشاء مصانع للدبابات أو الطائرات، بل من الأسفل: من خرائط سلاسل الإمداد، ودراسة السوق بعمق، وتصنيف المكونات السيادية وتلك القابلة للتوريد، ثم ربط الموردين المحليين بمشروعات جزئية تحقق عائداً مباشراً من العملة الصعبة.
من دون فهم اقتصاد سلاسل الإمداد، سنظل نقيس النجاح بعدد الدبابات أو بصور دعائية من معرض “إيديكس”، بينما النمو الحقيقي يبدأ من المصنع الذي يصنع المسمار الذي يمسك جناح الطائرة، لا من المصنع الذي يصنع الجناح نفسه. ولهذا أقول إن الصور والدعاية السياسية التي يخدعون بها الناس لا تعدو كونها نكتة لمن يفهم المجال. يجب أن نعمل من القاعدة إلى القمة كي نصل إلى تفوق تقني وعملياتي حقيقي، لا عبر الصور والشعارات الإعلامية.
وهذا ما تفهمه جيداً دول مثل كوريا الجنوبية وتركيا، فقد تحركتا بالمنطق ذاته: من موردين جزئيين إلى شركات عالمية، من الأسفل إلى الأعلى. ردد معي: من الأسفل إلى الأعلى؛ من ورشة كابلات إلى مصنع رقائق إلكترونية، إلى مصنع جناح طائرة مسيّرة، ثم إلى مصنع الطائرة المسيّرة الكاملة. والمفارقة أن مصنع الطائرة الكامل هو الأسهل في السلسلة، والأقل أهمية.
كوريا الجنوبية اليوم ضمن أول خمس دول في العالم في صادرات الصناعات الدفاعية، و80٪ من شركاتها الدفاعية كانت في الأصل شركات مدنية تعمل في الإلكترونيات والسيارات قبل عشرين عاماً فقط. أي أن صعودها بدأ من الأسفل جداً، لا من إنشاء مصنع لطائرات مسيّرة لإبهار الآخرين.
أكرر أخيراً: القوة العسكرية اليوم لا تكمن في امتلاك السلاح، بل في امتلاك القدرة على إعادة إنتاجه بسرعة، وفي امتلاك شبكة مورّدين محلية أو دولية مضمونة. فالسيطرة على سلاسل الإمداد هي جوهر القوة الحديثة، وسلاسل الإمداد الذكية أصبحت سلاحاً استراتيجياً بحد ذاتها.
Researcher