هناك جانبٌ في الصناعات الدفاعية التركية لا يتحدث عنه الكثيرون، رغم أنه يُعتبر من أهم مفاتيح فهم الطفرة التي حدثت في هذا القطاع خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة.
ولو أردنا أن نتناوله من زاويةٍ أكاديميةٍ، فالموضوع يرتبط بتغيّر العلاقات المدنية–العسكرية في تركيا، وتأثير هذا التحول على طريقة إدارة الصناعات الدفاعية.
وإذا أردنا تبسيط الفكرة، فهي تكمن في أنه عندما خرجت الإدارة من النمط العسكري التقليدي ودخلت في إطارٍ مدني–تكنوقراطي، تغيّر وجه الصناعة بأكملها.
الفكرة ليست في أن العسكريين غير أكفاء أو أن المدنيين أذكى، ولكن لا يمكن إدارة صناعةٍ تكنولوجيةٍ متقدمةٍ، عالية المخاطر، وموجَّهةٍ للأسواق العالمية بعقلية مؤسسةٍ عسكريةٍ هرميةٍ هدفها الأساسي تلبية احتياجات الجيش الداخلي فقط.
ولكي نفهم هذا التحول، علينا أن نعود قليلًا إلى الوراء.
فالشركات الكبرى في الصناعات الدفاعية التركية مثل «أسيلسان» و«طاي» تأسّست في السبعينيات، ضمن سياقٍ سياسيٍّ خالص، بعد صدمة الحظر الأمريكي على الأسلحة إثر أزمة قبرص عام 1974، وما رافق ذلك من وعيٍ تركيٍّ بأن الاعتماد الكامل على الغرب يشكل خطرًا استراتيجيًا.
تأسّست شركة «أسيلسان» عام 1975 كردٍّ مباشرٍ على ذلك الحظر، وكانت تابعة منذ نشأتها لمؤسسة القوات المسلحة التركية.
أما شركة «طاي»، فقد وُجدت قبل ذلك بقليل، لكنها اكتسبت شكلها الصناعي الأكبر في الثمانينيات عندما دخلت في شراكاتٍ مع شركاتٍ أمريكيةٍ لإنتاج وتجميع طائرات F-16.
أي إن كلتا الشركتين كانتا جزءًا من مشروعٍ لتوطين الصناعات الدفاعية، لكنه ظلّ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمؤسسة العسكرية وبتلبية الاحتياجات العاجلة للقوات المسلحة.
وكانت تلك الشركات خاضعةً لنفوذ مؤسساتٍ يسيطر عليها الجيش، إضافةً إلى وجود عددٍ كبيرٍ من العسكريين المتقاعدين في مجالس إدارتها ومناصبها العليا.
وقد انعكس ذلك طبيعيًا على ثقافة الإدارة نفسها، فغلب عليها الطابع المحافظ، وتجنّب المخاطرة، مع تركيزٍ شبه كاملٍ على تلبية متطلبات الجيش التركي، واعتمادٍ واسعٍ على الإنتاج بترخيصٍ أو بالتطوير المحدود.
وهذا ليس رأيًا شخصيًا، بل منطقٌ معروفٌ في دراسات الإدارة والابتكار، حيث تشير تلك الدراسات إلى أن نمط الحوكمة وآلية اتخاذ القرار يؤثران مباشرةً على مستوى الابتكار، والاستعداد للمخاطرة، والقدرة على التفكير التجاري طويل المدى.
وحين تُدار شركةٌ دفاعية بعقلية مؤسسةٍ سياديةٍ مغلقة، فمن الطبيعي أن تُنتج للداخل، لكن من الصعب أن تصبح لاعبًا عالميًا في التصدير، والابتكار، والتفاوض.
لذلك، ورغم أن البنية الصناعية الدفاعية التركية موجودة منذ نحو خمسين عامًا، ظلّ نمو هذا القطاع محدودًا لفترةٍ طويلة.
فحتى بداية عام 2010، لم تكن صادرات الصناعات الدفاعية والفضائية التركية تتجاوز مليار دولار، وكانت تتقدم ببطءٍ شديدٍ مقارنةً بطموحات الدولة آنذاك.
التحول الحقيقي لم يحدث فجأة، لكنه بدأ يتسارع بوضوحٍ منذ عام 2004 تقريبًا.
فقد أصبحت الدولة مشتريًا استراتيجيًا لا وحيدًا من هذا القطاع، وزادت الإنفاق على البحث والتطوير، وفتحت الباب أمام شركاتٍ خاصةٍ وشبه خاصةٍ لدخول مجالٍ كان سابقًا شبه مغلق.
لكن محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 كانت لحظةً مفصليةً في تسريع هذا المسار، إذ أتاحت إعادة ترتيبٍ جذريةٍ لتوازنات القوة داخل الدولة، ومن ضمنها قطاع الصناعات الدفاعية.
بعد عام 2016، جاءت خطوةٌ محوريةٌ بإعادة ربط وكالة الصناعات الدفاعية (SSB) مباشرةً برئاسة الجمهورية.
وقد حقّق هذا القرار ثلاثة أمورٍ في وقتٍ واحد:
إعادة تمركز القرار بعيدًا عن شبكات المؤسسة العسكرية التقليدية، وتسريع التغييرات في القيادات داخل الشركات والوكالة نفسها، وخلق نوعٍ من الانسجام بين الصناعة الدفاعية والسياسة الخارجية والأهداف الجيوسياسية للدولة.
وقد فتح ذلك الباب أمام جيلٍ جديدٍ من القيادات المدنية–التكنوقراطية، بخلفياتٍ في الإدارة والاقتصاد والهندسة والطيران.
وأوضح مثالٍ على هذا التحول هو «تَمل كوتيل»، القادم من إدارة الخطوط الجوية التركية، وهي شركةٌ مدنيةٌ عالمية تعاملت مع المنافسة والتسويق والكفاءة والربحية وحققت نجاحًا كبيرًا في هذه المجالات.
عندما تولى كوتيل قيادة «طاي» بعد عام 2016، لم يكن تفكيره محصورًا في سؤال: "ما الذي يحتاجه الجيش اليوم؟"، بل توسّع ليشمل "ما الذي سيحتاجه غدًا؟" و"ما الذي يمكن أن يشتريه السوق العالمي؟".
هذا التحول نقل الصناعة من منطق «برنامجٍ سياديٍ مغلق» إلى منطق «منتجٍ دفاعيٍ استراتيجيٍ قابلٍ للتصدير».
من هنا بدأ يظهر خطابٌ جديدٌ في تركيا، بل وحتى شعارٌ رسمي يقول: «الدفاع كصناعةٍ تصديرية» (ihracat için savunma sanayii).
وفي الفترة نفسها، وصل الإنفاق السنوي على البحث والتطوير في قطاع الدفاع إلى نحو ثلاثة مليارات دولار.
أصبحت الشركات أكثر مرونةً، وازداد الاهتمام بالكفاءة والربحية والوقت، وظهرت علاقةٌ أوضح بالسوق العالمي.
كل ذلك انعكس على الأرقام، إذ ارتفعت صادرات الدفاع والفضاء التركية من أقل من مليار دولار إلى نحو 7.2 مليارات دولار في عام 2024.
لكن الأهم من الأرقام هو نوعية المنتجات: المقاتلة «كاان»، الصاروخ البحري «أتماجا»، والطائرات المسيرة المسلحة التي غيّرت موازين القوى في أكثر من ساحة.
هذه المنتجات ليست مجرد نجاحاتٍ تقنية، بل ثمرة مباشرة لتغيير فلسفة الإدارة وعلاقة الدولة بالصناعة.
وتصنّف كثيرٌ من التحليلات تركيا اليوم كدولةٍ صاعدةٍ في مجال الصناعات الدفاعية، وتُرجع هذا التحول إلى أربعة عوامل رئيسية تكاملت معًا:
· تهميش الدور السياسي المباشر للمؤسسة العسكرية.
· صعود قيادةٍ مدنيةٍ مركزية تتحكم في القرار الاستراتيجي (الرئاسة + وكالة الصناعات الدفاعية).
· توظيف قطاع الدفاع كأداة قوةٍ صلبةٍ وناعمةٍ في السياسة الخارجية.
· تشجيع دخول الشركات الخاصة وشبه الخاصة إلى السوق بدل حصره في الكيانات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية فقط.
وهو درسٌ بالغ الأهمية للعديد من الدول التي تطمح إلى الوصول إلى المستوى الذي بلغته تركيا؛ فالأمر لا يتعلق بالقدرات التقنية وحدها، فالمهندسون الأتراك موجودون منذ عام 1974، ولكن نمط الإدارة نفسه هو الذي أحدث هذه الطفرة، حين تركت الدولة «الخبز لصاحبه»، أي الإدارة للعقول المتخصصة.
Researcher