صرّح أحد لواءات الجيش المصري مؤخراً بأنّ مصر تملك أسلحة خفية وسرّية، تُخفى عن العيون لتفاجئ بها العدو إذا نشب صراع، فيُصدم وينهزم، وهكذا...
فإن كان هذا الرجل يصدق حقاً ما يقول، فحاليًا أشفق على حالنا، وإن لم يكن يصدق، فنحن أمام حالة تغييب متعمّد لوعي الناس بحقيقة وضع بلدهم.
بعيدًا عن الفارق في القدرات العسكرية وتأخرنا لقرابة عشرين عامًا إلى الوراء، ورغم أنّ صواريخ وطائرات الكيان المسيّرة قد تصل إلى سماء القاهرة أسرع من رحلتك من أكتوبر إلى التجمع في زحام يوم جمعة،
إلّا أنّ القدرات العسكرية المصرية ليست مجهولة بالنسبة لأجهزة استخبارات الدول. بل حتى أقلّ خبير تطوير أعمال (Business Development Specialist) في شركة صناعات دفاعية محترمة يستطيع بسهولة أن يحصي لك ما هو مُعلن من أسلحتنا وما هو غير مُعلن منها.
فعلى سبيل المثال، حين تتوجّه إلى الصين أو الهند في محاولة لشراء ذخائر انتحارية مسيّرة (Tactical Kamikaze Munitions)، فذلك يعني أحد أمرين:
إمّا أنّ هذا النوع من السلاح غير متوافر لديك وتسعى حقاً للحصول عليه، أو أنّك تريد شراءه بغرض الهندسة العكسية (Reverse Engineering) وتصنيعه محلياً.
وفي الحالة الثانية، فغالباً لن تتمّ الصفقة أصلاً (فليس من الصعب التمييز بين طرف جاء للشراء والتعاون، وآخر جاء لنقل التكنولوجيا)، وإن تَمّت، فستُفرض عليها شروط تجعل الشراء على دفعات وبفترات زمنية طويلة.
وفي كلتا الحالتين، سيكون معلوماً أنّك تملك هذا النوع من الأسلحة أو على الأقل مهتمّ بتصنيعه.
أما إذا كنت مُحنّكًا وتعمل سراً على تطوير سلاح فائق السرّية، فحتى في تلك الحالة، إن طوّرته فعلاً فستحتاج إلى بيعه. إذ لا توجد دولة في العالم تطوّر سلاحاً سرياً مكلفاً لنفسها فقط، لأن تكلفة التطوير ستكون أعلى بكثير من العائد الناتج عن امتلاكه. ولذلك تضطر الدولة إلى الاستفادة من اقتصاد الحجم الكبير (Economies of Scale) ببيع السلاح أو نسخ معدّلة منه لدول أخرى لتعويض تكاليف البحث والتطوير (R&D) وضمان استمرار الإنتاج لتغطية الاحتياجات المحلية والتصدير.
وطبعاً، من أجل البيع، يجب أن تسوّقه في معارض السلاح وتشارك به في تدريبات عسكرية، وفي كل ذلك سينكشف ما تملكه وما تعمل عليه.
فضلًا عن أنّ تطوير أي سلاح يتطلّب مكونات مستوردة، وتتبع سلاسل الإمداد كافٍ لأي باحث متواضع أن يعرف من خلاله بالضبط نوع السلاح الذي تعمل عليه.
وبمناسبة الحديث عن معارض السلاح، فهناك العديد منها في المنطقة والعالم كله، ومصر تشارك فيها. وكل دولة تشارك عادةً بهدف البيع (والدافع وراء رغبة البيع موضوع آخر أعمق سأكتب عنه لاحقًا، لأنه لا يتعلق بالمال فقط).
وفي تلك المعارض دائماً يوجد مهندسون يحملون بطاقات عسكرية، ومهمتهم الوحيدة تحليل المنتجات وفهمها، ليكتبوا لاحقاً تقارير عن كل دولة شاركت بأسلحتها هناك.
وهكذا، يصبح معروفاً أيضاً ما إذا كنت تمتلك هذا النوع من الأسلحة أم لا.
فصدقني، فكرة أنك تخفي سلاحًا سرّياً لا يعرفه أحد هي خرافة غير واقعية. فأي محاولة جادة للتطوير أو التصنيع أو حتى الاختبار تترك وراءها أثرًا، ولا تحتاج أن تكون وكالة استخبارات لاكتشافه. يكفي أن تكون محللاً يعمل في شركة استخبارات دفاعية محترمة، أو حتى متابعاً في مؤسسات معروفة مثل SIPRI أو Jane’s.
خذ إيران مثالاً: حاولت سنواتٍ تطوير طائراتها المسيّرة في السر، ومع ذلك، التسريبات عبر صور الأقمار الصناعية وبصمة المواد المصنعة ونوع الشرائح الإلكترونية فيها، كلها كانت تفضح الأمر حتى قبل الإعلان الرسمي. وما إن جُرّب السلاح حتى عرفت الدنيا كلها مواصفاته ومصدره.
وإسرائيل مثلًا، لم تُعلن رسميًا يوماً امتلاكها صواريخ نووية، ومع ذلك يعرف العالم كله ذلك، من صور الأقمار الصناعية لمجمّعات التجارب، واستيراد المحركات الصاروخية متعددة المراحل (Phase-Staged)، وتحليل بقايا الإطلاقات في البحر المتوسط، والنشاط غير المعتاد في قاعدة "بالماخيم"، وصور MIRVs التي سرّبتها أقمار صناعية فرنسية، وحتى شكاوى شركات أوروبية من تسرب تكنولوجيا حساسة لإسرائيل.
وكذلك الحال مع الولايات المتحدة في الثمانينات حين طوّرت الطائرة الشبح F-117، التي كانت آنذاك مشروعًا سريًا، ومع ذلك كان الروس وغيرهم على علم بالبرنامج، بل وقدّر بعض التقارير تفاصيله التقنية بدقة، تمامًا كالتوقّعات السنوية عن مواصفات الآيفون الجديد.
وبالمناسبة، حتى يمتلك السلاح قيمته، لا بدّ أن يُستخدم ويُختبر ويُطوّر باستمرار، وكل ذلك يُرصد ويُفهم.
ومصر نفسها، كل الصفقات التي أبرمتها خلال السنوات العشر الأخيرة من طائرات "رافال" و"ميغ" و"سوخوي"، إلى الأنظمة الدفاعية الألمانية والفرنسية والصينية، كلها كانت معروفة وانكشفت عبر تقارير دولية أو تصريحات الموردين. لم تمر صفقة واحدة دون أن تترك أثرًا يمكن تتبعه. والأهم أنّ هناك محللين يتتبعون خيطاً واحداً ليعرفوا منه كل منظومة الأسلحة التي ستمتلكها الدولة بعد تلك الصفقة.
وباختصار، يمكن بسهولة تتبّع أي تطوّر تكنولوجي في قطاع الدفاع من خلال مراقبة سلاسل الإمداد، أو طلبات التوظيف، أو زيادة الإنفاق في مجالات محددة، أو النشاط في مراكز الاختبار والتدريب، أو التواصل مع شركات أجنبية، أو حتى تسجيل براءات الاختراع، وغيرها.
فمن لا يزال يصدق أننا سنفاجئ العدو بورقة سرّية، سيكتشف متأخرًا أنّ المفاجأة الوحيدة ـ للأسف ـ ستكون علينا نحن.
Researcher