info@archon-defense.com

Archon

التوقيت والميزانية في إدارة المشاريع الدفاعية

8 hours ago
1 views
0 comments
4 min read

هل تعلم أنّك إذا كنت مدير مشروع دفاعي، فالكلمتين الأكثر شيوعاً اللتين ستسمعهما في عملك لن تكونا "السريّة" و"الأمن القومي"، بل ستكونان "متى؟" و"الميزانية"!

وهاتان الكلمتان هما بالضبط ما يسمعه أي شاب يتقدّم للزواج من فتاة.

لكن هل تعلم لماذا تتجاوز معظم البرامج الدفاعية حول العالم الميزانية المحدّدة لها، وتتأخّر في التنفيذ، ثم تُظهر نتائج أقل من التوقعات؟

هذا السؤال ليس استثناءً محليّاً، بل هو نمط عالمي يتكرّر من أمريكا إلى بريطانيا وأوروبا، وتكمن وراءه أسباب اقتصادية ومؤسسية متجذّرة في طبيعة صناعة الدفاع نفسها.

أولاً، علينا أن نفهم أنّ السلاح ليس سلعة عادية. ففي الاقتصاد التقليدي، السوق ينظّم نفسه بالمنافسة؛ المنتج الرديء أو الباهظ يفقد مكانه، والمستهلك ينتقل إلى المنافس.

لكن في قطاع الدفاع، المعادلة مقلوبة تماماً. فالمشتري الوحيد عادة هو الدولة، والمورّدون محدودون للغاية، وكل منتج — سواء كان طائرة أو منظومة أو مدرّعة — شديد التعقيد إلى درجة تمنع وجود بدائل حقيقية.
وهذا يجعل السوق شبه احتكاري، والدولة كمشتري تضطر للاستمرار حتى مع ظهور العيوب أو الزيادات الهائلة في التكلفة.

وبسبب طبيعة هذا السوق، يحدث تضخّم في الميزانيات وتأخير في المواعيد، لأن الضغط التنافسي الطبيعي غير موجود، بينما الالتزام السياسي والأمني بالمشروع يكون عالياً جداً.

ثانياً، هناك فجوة معلومات ضخمة بين الطرفين. تحدثت سابقاً عن نظرية "الأصيل والوكيل"، حيث تمثّل الدولة "الأصيل" وتمثّل الشركة "الوكيل".

هذه النظرية تُبرز الفرق في المعلومات بين الطرفين: فالشركات تمتلك معرفة دقيقة بالتكلفة الفعلية والمدة اللازمة والتعقيدات الفنية، بينما تمتلك الجهات الحكومية رؤية جزئية مبنية على تقديرات مبدئية.
وبالتالي، تستطيع الشركة أن تتحكّم في توقّعات الدولة — أي "تلعب بها" بلغة أبسط — فتقدّم خطة مشروع مثالية بسعر وجدول زمني غير واقعي، وتوافق الحكومة غالباً لأنّها تواجه ضغطاً سياسياً أو عسكرياً للبدء، ولأنها لا تعرف التفاصيل الكاملة.

وبعد توقيع العقد، تبدأ الأرقام في التغيّر، ومع مرور الوقت يصبح إلغاء المشروع أو تعديله شبه مستحيل بسبب تبعاته السياسية والأمنية، وكذلك تكلفته الإضافية.

ثالثاً، إن تعدد الجهات داخل الدولة نفسها يخلق فوضى مؤسسية؛ فكل جهة ترغب في نسخة مخصّصة من المنتج بمواصفات فنية مختلفة، فتتضخّم قائمة المتطلبات الفنية، وتتبدّل البرمجيات والمكوّنات، وتطول فترة الاختبارات، ومع كل ذلك يمتد الجدول الزمني وترتفع التكلفة.

هذا من الناحية النظرية، فلننتقل الآن إلى الجانب العملي.

تقارير مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي (GAO) حول برنامج الطائرة F-35 تشير إلى أنّ مبدأ "التوازي بين التطوير والإنتاج" — أو الـConcurrency — كان من أهم أسباب تضخّم التكلفة وتأخّر التسليمات، لأن الطائرة كانت تُنتج قبل استقرار التصميم، فكل تعديل لاحق يتطلّب إعادة تصنيع أو اختبار.
والنتيجة كانت تأخيراً متوسطه أكثر من 200 يوم في عام 2024.
ولكن الأهم هو أنّ التقرير ذكر استمرار الحوافز المالية كما لو أنّ الأداء ممتاز، مما يبرز مشكلة مؤسسية أخرى: نظام الحوافز يكافئ النشاط نفسه لا النتائج الفعلية.

قانون Nunn–McCurdyالأمريكي يلزم وزارة الدفاع بإبلاغ الكونغرس إذا تجاوز المشروع نسبة محددة من الزيادة في التكلفة.

وعندما حدث ذلك في مشروع الصاروخ النووي Sentinel، اكتُشف أن سبب التأخير لم يكن تقنياً بحتاً، بل متعلّق بالبنية التحتية نفسها — أي أن بعض التكاليف الخفية للمشروع لم تُحتسب منذ البداية.

وفي أوروبا، تُعدّ المدرّعة البريطانية Ajaxمثالاً واضحاً. فالمشروع واجه مشاكل فنية وتأخيرات طويلة جداً، وأشار تقرير مكتب التدقيق الوطني البريطاني (NAO) إلى أن إصلاح البرنامج أصبح أكثر كلفة من إنشاء برنامج جديد بالكامل.

لكن المشروع استمر لأنّ ما يسمى "التكاليف الغارقة" (Sunk Costs) تخلق وهماً بالاستمرار: "لقد أنفقنا كثيراً، فليس من المنطقي أن نتوقّف الآن" — حتى إن كان التوقّف أكثر توفيراً.

من ذلك يتّضح أنّ تأخّر برامج الدفاع لا يعود فقط إلى أخطاء التنفيذ، بل إلى منظومة حوكمة معقدة تجمع بين احتكار المورّدين، وغموض المعلومات، وتعدّد الجهات، ونظام حوافز مؤسسي يشجّع على الاستمرار لا على النتيجة.

وطالما أن سوق الدفاع يقوم على ضرورات الأمن القومي أكثر من منطقه الاقتصادي، فسيظل تضخّم التكاليف وتأخير التسليم ظاهرة طبيعية في كل مشروع دفاعي ضخم.

لكن، بما أن هذه هي طبيعة السوق، يُطرح السؤال الطبيعي: هل هذا النظام محكوم عليه أن يبقى هكذا؟
الإجابة: لا. ولكن أي إصلاح حقيقي يجب أن يعالج جذور الخلل المؤسسي، لا الأعراض فقط.

بعض الدول الغربية حاولت تضييق هذه الفجوة من خلال أدوات رقابية أقوى وتدقيق دوري من جهات مستقلة، مع ربط التمويل بالنتائج القابلة للقياس لا بالوعود الأولية.

كما تسعى قوانين مثل Nunn–McCurdyإلى كسر الاستمرارية التلقائية في المشاريع الضخمة، وإجبار الوزارة على التوقّف والتبرير وإعادة التقييم عند تجاوز التكلفة الحدود المحددة.

إصلاح نظام الحوافز أيضاً عنصر حاسم؛ بدلاً من أن تحصل الشركات على مكافآت لمجرّد التعديلات أو التوسعات، يجب ربط الأرباح بالالتزام بالجداول الزمنية وتحقيق الأداء المطلوب، ومع تعزيز الشفافية الفنية والمالية لتقليص احتكار المعلومات.

أي حل حقيقي يحتاج إلى إعادة تصميم نموذج الحوكمة ذاته منذ تعريف المتطلبات إلى الرقابة على التنفيذ — وليس مجرّد تبديل مقاول أو تعديل عقد.

وبالتالي، إذا استمرّت صناعة الدفاع في أي دولة تعمل تحت منطق "الأمن القومي بأي ثمن"، من دون نظام حوكمة ذكي أو حوافز منضبطة، فستبقى دوامة التكاليف المتضخّمة والتأخيرات المزمنة نتيجة حتمية.

لكن إذا بُني نموذج يوازن بين السرية العسكرية والشفافية المؤسسية، وبين السرعة في اتخاذ القرار والصرامة في المحاسبة، فعندها فقط يمكن أن تتحول برامج الدفاع من مصدر استنزاف مالي دائم إلى أداة فعالة لإنتاج قوة عسكرية حقيقية.