دعنا ننظر إلى زاوية مهمة يجب أن يفكر فيها كل من يتحدث عن الصناعات الدفاعية: سلاسل الإمداد.
التصنيع الدفاعي ليس مجرد صنع السلاح، بل هو القدرة على ضمان استمرارية إنتاجه وتحديثه وصيانته في بيئة دولية تتغير فيها التحالفات والقيود الاقتصادية بسرعة مذهلة.
الذي يجعل اقتصاديات الدفاع معقدة ليس سعر السلاح، بل تكلفته على مدى عمره، وهو مفهوم معروف في الصناعة باسم التكلفة على مدى دورة الحياة (Life-Cycle Costing).
فعندما تصنع مثلاً طائرة أو مدرعة، ستجد أن نحو 30٪ فقط من التكلفة هي سعر الإنتاج، بينما الباقي كله تشغيل وقطع غيار وتحديث ودعم فني ولوجستيات. وهذه معادلة تجعل المورد الصناعي أهم من المصنع الأساسي نفسه.
كانت الدروس المستخلصة من حرب أوكرانيا صعبة لكنها بالغة الأهمية. فروسيا تمتلك آلاف الدبابات والمصانع، لكنها عندما دخلت الحرب اكتشفت اعتمادها على مكونات إلكترونية أجنبية في أنظمة التوجيه والاتصالات.
العقوبات أدت إلى اختفاء الموردين فعلياً من المنظومة، فأصبحت التقنيات القديمة تهيمن على خطوط الإنتاج، وارتفعت تكلفة البدائل المحلية أضعافاً مضاعفة. والسبب بسيط: الطلب المفاجئ جعل الموردين المحليين يحتكرون السوق، فلهم حق رفع الأسعار وتمديد فترات التسليم، بعد أن اختفى المنافس الأجنبي.
من الناحية الاقتصادية، هذه ليست مجرد أزمة عقوبات، بل كارثة إدارة سلسلة إمداد.
والمشكلة ذاتها واجهتها أوروبا عندما اكتشفت أن خط التجميع الأوروبي لأي ذخيرة متقدمة قد يتأخر شهوراً بسبب مورد صغير في النمسا أو بولندا يعجز عن رفع الإنتاج.
ولهذا بدأ الاتحاد الأوروبي يتحدث اليوم عن مفهوم جديد اسمه سيادة سلسلة القيمة الدفاعية (Defense Value Chain Sovereignty)، أي أن الأمن القومي لا يكمن في عدد الطائرات، بل في قدرتك على التحكم في مكونات إنتاجها.
وهنا يظهر الفرق بين الاستقلال الصناعي (industrial autonomy) والاستقلال التشغيلي (operational autonomy).
قد تطير بطائراتك الخاصة وتتحكم بها بالكامل، ولكن إن كانت كل شريحة إلكترونية فيها تأتي من الخارج، أو إن كان أي مورد يمكن أن يتوقف بسبب أزمة، فصناعتك الدفاعية تصبح على كف عفريت اقتصادياً.
وقد فهمت تركيا هذا المنطق مبكراً. فمنذ عام 2015 تقريباً بدأت في تنفيذ خطة باسم سلاسل الإمداد المحلية من البداية إلى النهاية (End-to-End Domestic Supply Chains)، بحيث يكون في كل مشروع دفاعي نسبة محلية حقيقية من المكونات، خاصة الحساسة منها.
فعلى سبيل المثال، مشروع محركات الطائرات المسيّرة تأخر لسنوات لأنهم لم يرغبوا في الاعتماد الكامل على موردين أجانب. أي أنهم أوقفوا المشروع على مكون معين كان يمكنهم شراؤه بسهولة، لكنهم فضّلوا الانتظار حتى تنتهي الشركة المحلية من تصنيعه ثم يواصلوا العمل.
اليوم أصبحت الصناعة الدفاعية التركية شبكة تضم أكثر من 3500 شركة موزعة على سلاسل فرعية في مجالات الإلكترونيات والميكانيكا والبرمجيات، وجميعها تحت نطاق الرقابة والتمويل من الدولة ومؤسسة الصناعات الدفاعية (SSB).
هذا النوع من الاقتصاد يُعرف في أدبيات الاقتصاد الصناعي باسم اقتصاد النطاق (Economy of Scope). لنركز هنا قليلاً: هذا المفهوم يعني الاستفادة من القدرة التصنيعية ذاتها في إنتاج أكثر من منتج.
فالمورد التركي الذي يصنع أجزاء الطائرات هو نفسه الذي يعمل في إنتاج مكونات الطائرات المسيّرة والصواريخ البحرية. وهذا ما يخلق كتلة صناعية مرنة قادرة على الصمود بعد أي أزمة أو تغيير في الأولويات.
أما الدول التي تمتلك مصانع دفاعية ولكنها لا تمتلك موردين محليين مستقلين أو شركات خاصة، فهي لا تبني منظومة اقتصادية بل مجرد منشأة إنتاج. أي أنها تصنع السلاح، لكنها لا تؤسس لاقتصاد دفاع حقيقي.
هذا هو الفارق الجوهري الذي مكّن فرنسا مثلاً من مواجهة انقطاع الإمداد بعد أزمة أوكرانيا، إذ تمتلك شبكة موردين متكاملة. في حين وقعت دول أوروبا الشرقية في فخ الاعتماد الكامل على الخارج، وهي تحاول الآن الخروج منه، لكن مثل هذه الأمور تحتاج إلى وقت وتمويل كبيرين.
الذي يجعل المورد أهم من السلاح هو أن المورد يمثل الذاكرة الصناعية. فالسلاح يتغير كل عشر سنوات مثلاً، لكن المصنع أو المورد الذي صمّمه هو من يطوّر الإصدار الجديد بخبراته المتراكمة.
فإذا لم يتعلم المورد شيئاً جديداً أو لم يحقق ربحاً من عمله، سيخرج من المنظومة، وتموت معه المعرفة المتراكمة. اقتصادياً يُعرف ذلك باسم تآكل القدرة الصناعية (capability decay)، وهو تدهور المهارات والكفاءة بمرور الوقت نتيجة غياب الطلب أو القيود الإدارية.
وبالتالي، فإن أي دولة ترغب في بناء اقتصاد دفاع حقيقي يجب أن تطرح أسئلة جوهرية: من يورد لي المكونات؟ كيف يوردها؟ ماذا يتعلم من هذا العمل؟ هل يصدر؟ وهل يحقق ربحاً؟
لأن المورد الذي يصدر ويكسب هو المورد القادر على الاستثمار، وتدريب المهندسين، وتطوير نفسه. وهذا هو العامل الحاسم في معركة الصناعات الدفاعية الحديثة: ليست جودة السلاح هي الأساس، بل استدامة السلسلة التي تحافظ عليه وتطوره.
Researcher