info@archon-defense.com

آركون

قصة ارتباط الأمن القومي بالتنمية الاقتصادية

منذ 9 ساعات
6 المشاهدات
0 comments
5 دقيقة/دقائق للقراءة

منذ أن عرف العالم الجيوش الحديثة، بدأت الدول تفكر في كيفية الاستفادة من الابتكار العسكري في المجالات المدنية. لكن الطفرة الحقيقية في التفكير المنظم في هذا الاتجاه حدثت بعد انتهاء الحرب الباردة. فقد وجدت الدول نفسها تمتلك مصانع كانت تُنتج تكنولوجيا عسكرية لأغراض الردع، أي أنّ الهدف لم يكن الهجوم، بل توجيه رسالة مفادها: "أنا أملك قوة عسكرية كافية لأحمي نفسي إذا بادرتَ بالهجوم." وهكذا كان العالم كله ينفق ميزانيات ضخمة على الدفاع وفق مبدأ الردع.

وبعد الحرب الباردة ظهرت مشكلة خطيرة عالمية: تلك المصانع، والمهندسون، والآلات، والمنظومات الصناعية بأكملها لم تعد مطلوبة بالقدر السابق، بعد انخفاض الطلب على المنتجات الدفاعية. فكان السؤال: ماذا نفعل بكل هذه الموارد؟

ورغم بساطته الظاهرية، فإنّ الإجابة عنه لم تكن سهلة. وهكذا بدأ التفكير في ما عُرف لاحقًا باسم "التقنيات ذات الاستخدام المزدوج" (Dual Use Technologies)، وهي التقنيات التي تصلح للاستخدامين المدني والعسكري معًا. وكان ذلك بسبب تقلص حجم التمويل، فبدأت الشركات تركّز على تطوير تكنولوجيا يمكن بيعها في زمن السلم والحرب على السواء.

ولهذا ظهرت دراسات عديدة تتناول العلاقة بين الابتكار العسكري والابتكار المدني في فترتي السلم والحرب. وإذا نظرنا إلى تاريخ التكنولوجيا منذ الثورة الصناعية وحتى عصر الذكاء الاصطناعي، نجد شيئًا ثابتًا: وهو أنّ الحاجة العسكرية في معظم الأحيان هي التي تُحرّك ماكينة الابتكار التكنولوجي، بينما الاقتصاد هو الذي يُكمل عملية التطوير لاحقًا.

ومن يرغب في التعمّق أكثر يمكنه البحث في أعمال "مويري" و"كامبفرت" و"ميلوارد"، حيث سيجد مقالات علمية تشرح كيف أن التمويل العسكري الأمريكي، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأ منظومة مترابطة تربط الجيش بالشركات والجامعات والمختبرات.

هذا الترابط هو الذي أنتج لاحقًا الإنترنت، والحاسوب، ونظام تحديد المواقع "GPS"، والطيران النفاث، وأشباه الموصلات. إذ لا السوق الحر كان قادرًا على إنجاز ذلك بمفرده، ولا الشركات الخاصة كانت لتجازف بتمويل أبحاث قد تستمر عشرين عامًا دون ضمان نتيجة. لكن الحاجة العسكرية مختلفة لأنها ترتبط بهدف واضح هو الأمن القومي، بغض النظر عن التكلفة.

وعلى العكس من منطق السوق الحر الذي يركّز على الربح والإنتاجية، فإن الصناعات الدفاعية تضع الاحتياج والكفاءة في مقدمة أولوياتها، بينما تأتي التكلفة بعدها.

ويقول بعض الباحثين إنّ الحرب تُسرّع من وتيرة التقدم التكنولوجي، ولكن بشكل محدود. فليس صحيحًا – كما قد يبدو منطقيًا – أن الحرب تخلق التكنولوجيا المهمة بالضرورة. ما يحدث فعليًا هو تحسينات عاجلة وحلول سريعة أثناء الحروب، بينما في أوقات السلم تتاح المساحة لتحقيق قفزات جذرية واختراعات كبرى تغيّر شكل الصناعات بالكامل، كما حدث في الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة.

ويكتمل المشهد بكتاب "روتان" المعنون: هل الحرب ضرورة للنمو الاقتصادي؟

روتان يوضح أنّ الحرب بحد ذاتها ليست ما يحقق النمو، بل المؤسسات التي تُبنى حولها هي التي تصنع النمو.
عندما قرأت هذه الفكرة أول مرة قلت في نفسي: ما الجديد فيما يقول؟ هذا ما كرره كثيرون من قبله. لكن عند متابعة القراءة بتمعّن، نكتشف أنه يتحدث عن زاوية مختلفة تمامًا، حتى لو بدت الفكرة مألوفة.

فهو يوضح أن حجم الإنفاق ليس هو المهم، بل السؤال الحقيقي: هل تملك منظومة قادرة على استغلال هذا الإنفاق؟
أي: هل يوجد تواصل فعّال يربط بين البحث العسكري والصناعة المدنية؟

ويشرح كيف أن تفاوت مستوى هذا الترابط بين الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والاتحاد السوفيتي أثّر بصورة كبيرة على اقتصادات هذه الدول وعلى نوع التكنولوجيا التي طوّرتها.

ثم يوضح أن العملية تمر بخطوات أساسية؛ أولها بناء منظومة بحث وتطوير موجهة نحو مهمة واضحة (Mission-Oriented R&D)، أي أبحاث طويلة الأجل ذات أهداف محددة لا تستطيع الشركات الخاصة تحمّلها بمفردها، وهنا تتدخل الدولة لتتولى الجزء الأول والأهم.

بعد ذلك، تُنشأ منظومة تُمكّن الابتكار العسكري من الانتقال إلى السوق المدني بسهولة وبدون تعقيدات.
ثم تُحافظ الدولة على تواصل مستمر بين الجيش والصناعة والجامعات.
وهذه هي الخطوات التي حوّلت الابتكار العسكري في الولايات المتحدة إلى مؤسسة قائمة بذاتها، لا مجرد رد فعل عفوي يحدث دون رؤية أو ترابط مع الصناعات المدنية.

وعليه، فإن السؤال الذي ينبغي لصانع القرار أن يطرحه هو: هل أملك مؤسسات ابتكار مترابطة، أم أن هناك فجوة بين الابتكار العسكري والمدني؟

هذا السؤال مهم للغاية لأنه يؤثر مباشرة في قرارات مثل: هل نشتري السلاح أم نطوّره محليًا؟ وإذا طورناه، فكيف نستفيد من هذه التكنولوجيا في صناعات أخرى؟

كما يوضح هذا الفهم سبب سعي الدول إلى نقل التكنولوجيا العسكرية، ليس بغرض التصنيع الحربي فقط، بل لأن هناك آلاف الشركات المدنية وعشرات الصناعات المدنية التي تستفيد من تلك التكنولوجيا.
فالتصنيع قد يخلق تكنولوجيا، لكن إذا لم يكن الاقتصاد جاهزًا لاستقبالها، فلن يتحقق شيء فعليًا. وفي أحسن الأحوال ستكون النتيجة أشبه بمن يشتري سيارة "مرسيدس" ثم يربط بها حمارًا لجرها!

وهذه هي المشكلة التي تعاني منها دول كثيرة ترفع ميزانياتها الدفاعية من دون أن يرتفع معها مستوى تطورها التكنولوجي والصناعي. وهي بالمناسبة إحدى أكبر مشكلات دول شرق أوروبا مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، إذ يقولون: "لقد زدنا ميزانيات دفاعنا، لكن الشركات الفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية هي التي تستفيد." وهذه القضية جزء من رسالة الدكتوراه التي أعمل عليها.

وباختصار، فإن فهم العلاقة بين الابتكار العسكري والنمو الاقتصادي لم يعد ترفًا على الإطلاق، بل هو الطريق لفهم معنى الصناعات الدفاعية فهمًا عميقًا وحقيقيًا، بعيدًا عن التصورات السطحية التي تحصرها في الذخائر والطائرات والمدرعات.

فالمسألة أكبر وأعمق من ذلك بكثير، لأننا نتحدث الآن عن مبدأ مختلف مفاده أن الدول القوية هي تلك التي تمتلك مؤسسة تنتج السلاح والتكنولوجيا والاقتصاد معًا، وتعيد إنتاجها في منظومة تخدم الاقتصاد بأكمله.