info@archon-defense.com
آركون

تحوّل اقتصاديات الدفاع في عصر الذكاء الاصطناعي

منذ 5 ساعات
1 المشاهدات
0 comments
5 دقيقة/دقائق للقراءة

كنت أتحدث مع صديق مهندس حاسوب متميز، درس وعمل في جامعات وشركات تُعدّ أحلام شبابٍ كثيرين في أي مكانٍ في العالم. قرّر الآن دراسة إدارة الأعمال (MBA)، على الرغم من أنه حاصل على ماجستير في السياسة والتكنولوجيا، وقد حوّل تخصّصه إلى الذكاء الاصطناعي، لا في برمجته، بل في إدارة واقتصاديات الذكاء الاصطناعي (نعم، هناك تخصص بهذا الاسم الآن).

المهم أنّه حدثني عن شركة أمريكية أنشأها «بالمر لوكي» بعد أن باع شركته السابقة Oculus VR إلى شركة «ميتا» بمبلغ ٢ مليار دولار عام ٢٠١٤، ثم أسس شركة جديدة تُدعى Anduril Industries. صدّقني، هذه الشركة لم تعد ستغيّر شكل الصناعات الدفاعية في العالم… لقد غيّرته بالفعل.

سأتحدث عنها لاحقاً، لكنّي أودّ أن أتناول اليوم موضوعاً يرتبط بمستقبل اقتصاديات الدفاع والذكاء الاصطناعي.

فلنفكر معاً في المرحلة القادمة من تطور اقتصاديات الدفاع. كثيرون منّا ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة جديدة تزيد كفاءة الأسلحة، لكن الحقيقة أنّ أهميته تكمن في أنه يغيّر جوهر وشكل الاقتصاد الدفاعي من الأساس.

ولفهم هذا التحول، نحتاج إلى الإجابة عن سؤال مهم: ماذا يعني أن يكون لدينا «اقتصاد دفاعي قائم على الخوارزميات» بدلاً من «اقتصاد قائم على مصانع الحديد والمسامير»؟

في الصناعات الدفاعية التقليدية كانت القيمة تُخلق داخل المصنع؛ المصنع الذي يصنع الطائرة أو الدبابة أو الصاروخ. أمّا اليوم، فالقيمة تُخلق في الكود، والبيانات، والخوارزميات التي تجعل الطائرة أو الطائرة المُسيّرة تفكر بطريقة أذكى، أو تؤدي مهمة مختلفة كلياً عن غيرها حتى لو كانت من الطراز نفسه. هذا تحوّل اقتصادي جذري، لأنك لم تعد تبيع قطعة من الحديد، بل تبيع نظاماً معرفياً.

لو عدنا عشر سنوات فقط إلى الوراء، كانت كلمة «الاستقلالية التشغيلية» (Autonomy) تعني نظاماً مساعداً لاتخاذ القرار. أما اليوم، فقد اتجه العالم نحو أنظمة تُسمّى Human-Out-of-the-Loop systems، أي أن قرارات القتل أو الاشتباك تُتخذ ذاتياً من دون تدخل بشري مباشر.

وهذا التطوّر يخلق عملياً طبقةً اقتصادية جديدة داخل الصناعة يمكن أن نسميها طبقة الذكاء الاصطناعي الدفاعي.

الجانب الأهم أنّ الشركات التي تتحكم في الذكاء الاصطناعي الدفاعي ليست هي نفسها التي تصنع الطائرات أو الرادارات، بل شركات جديدة مستقلة دخلت المعادلة. لذلك يمكننا أن نعدّها طبقة جديدة في الصناعة، مثل: Palantir، Shield AI، Helsing في ألمانيا، أو Anduril التي بدأنا الحديث عنها. نحن نتحدث عن شركات برمجيات وأمنٍ سيبراني أصبحت تُنافس مصانع السلاح التقليدية نفسها.

وربما يخطر ببالك الآن تساؤل: ولماذا لا تقوم الشركات الكبرى القديمة بهذا العمل؟ سؤال وجيه وصعب في الوقت ذاته، وأقسام مثل إدارة التكنولوجيا والابتكار في جامعاتٍ كثيرة تحاول منذ سنوات الإجابة عنه.

نعود إلى جوهر موضوعنا: هذا التحوّل يُحدث ما يسميه الاقتصاديون مثلي (تبّاً لتواضعي) تفكيك سلسلة القيمة الدفاعية (Unbundling of the Defense Value Chain)، أي فصل المنظومة الصناعية المادية عن المنظومة الرقمية المعرفية، وذلك مجال بحث وتطوير بحدّ ذاته.

الدولة التي تُدرك هذا المعنى مُبكراً (أسمعيني يا دولة!) تستطيع أن تخلق لنفسها مزايا تكنولوجية واقتصادية في الوقت ذاته.

ولكي نفهم أهمية هذا التغير، دعونا نطّلع على بعض الأرقام.
في الولايات المتحدة، أكثر من ٧٠٪ من عقود الذكاء الاصطناعي الدفاعي ذهبت إلى شركات لم تكن يوماً جزءاً من البيروقراطية الدفاعية التقليدية، بل إلى شركات ناشئة. وداعاً لعمالقة الصناعة القديمة والشركات العتيقة في السوق، فنحن اليوم نتحدث عن شركات عمرها خمس أو عشر سنوات فقط. وهذا أمر خطير فعلاً.

في أوروبا، أطلقت وكالة الدفاع الأوروبية برنامج AI4DEF لتقليل التبعية للتقنيات الأمريكية في التطبيقات الذكية، وهو برنامج ضخم يركّز على خوارزميات الاستشعار المندمج (Sensor Fusion) والتحكّم الذاتي — وأيضاً عبر شركات ناشئة.

أمّا الصين، فتفعل العكس تماماً؛ إذ تدمج القطاع المدني والعسكري في إطار واحد يُعرف باسم الاندماج المدني-العسكري، وتركّز على ربط الذكاء الاصطناعي بأنظمة الصواريخ والطائرات المسيّرة من خلال سلاسل توريد وطنية. أي أن الصين تُسلّح أي تكنولوجيا ذكاء اصطناعي مدنية بشكل منهجي.

ومن زاوية اقتصادية، يعني هذا أنّ قطاع الدفاع دخل مرحلة جديدة يمكن تسميتها "تحوّل المعرفة إلى سلعة". قد تكون هذه المرحلة مألوفة في قطاعات أخرى، لكنّها المرة الأولى في التاريخ التي يدخل فيها الدفاع هذه المرحلة. اعتدنا النظر إلى الدفاع كـ«صناعة ثقيلة» تحتاج إلى شركات عملاقة واستثمارات هائلة، لكننا الآن نتحدث عن واقعٍ جديد: كل سطر كود وكل نموذج تعلمٍ آلي أصبح ذا قيمة نقدية حقيقية في سوق الدفاع.

وهذا سيغيّر شكل مراكز القوى في الصناعة الدفاعية، وسيبدّل أيضاً شكل التمويل الدفاعي نفسه، لأنك لم تعد بحاجة إلى رأس مال صناعي ضخم لبناء دبابة أو مصنع ذخيرة، بل تحتاج إلى رأس مال بشري ومعرفي.

وبجمع هذه المعطيات، يمكن القول إن صناعة الدفاع تتحوّل تدريجياً من اقتصاد معدني إلى اقتصاد معرفي.

وهنا نصل إلى سؤال أخطر — سؤال يمكن أن تُكتب فيه رسائل ماجستير ودكتوراه:
كيف تتعامل الدول التي ما زالت تبني قواعدها الصناعية الدفاعية مع هذا التحول؟
هل تبدأ بالحديد والإلكترونيات؟ أم تدخل مباشرة في البرمجيات والتحكم الذكي والأنظمة المندمجة؟

وجهة نظري هي أن أقصر طريق لأي دولة خارج نادي الكبار هو الدخول من باب الذكاء الاصطناعي الدفاعي مباشرة.
ليس لأن السلاح الذكي أسهل — بل لأنه أعقد بكثير — لكن لأن الحاجز الرأسمالي أقل بكثير. لا تحتاج إلى مصانع بمليارات، بل إلى مختبراتٍ وعلماء، بياناتٍ ومرونة في التفكير، وهي الموارد التي تمكن جيلاً جديداً من الدول من خلق ميزة نسبية رقمية بدلاً من الميزة الصناعية التقليدية.

الدول التي لم تدرك بعد معنى اقتصاديات الدفاع الذكية، ستنظر إلى العالم بعد خمس سنوات فقط وتكتشف أن سعيها وراء الحديد كان قراراً خاطئاً ومكلفاً، وأن من سبقها كانوا أولئك الذين بدأوا يبنون الخوارزميات والأكواد.

نحن أمام مشهدٍ مدهش فعلاً: بدأ الذكاء الاصطناعي في الأصل مدنياً، ثم تبنّته الصناعات الدفاعية، وهي الآن تطوره لتعيد نقله لاحقاً إلى القطاعات المدنية للاستفادة منه.
ومن يفهم هذا المنطق، يبني اليوم منظومات ذكاء اصطناعي دفاعي ليس من أجل الحرب فقط، بل لأن هذه المنظومات ستمتد لاحقاً إلى جميع الصناعات المدنية.

أتمنى أن تدرك الدول «الفقيرة جداً»، التي «شعوبها فقيرة جداً أيضاً»، هذا التغيّر، وأن تُحدث تحولاً حقيقياً، لتعيد أبناءها المشتتين حول العالم، كي يبنوا صناعة بعقولهم، لا بمصانع عملاقة واستثمارات ضخمة. الفرصة أمامكم حقاً، وحتى الفقراء جداً يمكنهم استغلالها.